الصفحة الرئيسية  اقتصاد

اقتصاد الأسبوع التونسي للبرمجة من 31 جانفي إلى 8 فيفري 2026: استثمار في عقول المستقبل

نشر في  29 ديسمبر 2025  (10:57)

في عالم يتجه بثبات نحو الاقتصاد المعرفي، لم تعد البرمجة مهارة تقنية محايدة، بل أصبحت لغة النفوذ الجديدة، وأحد مفاتيح التقدم العلمي والاقتصادي. ضمن هذا السياق الدولي المتسارع، تندرج الدورة الرابعة عشرة من الأسبوع التونسي للبرمجة، المنتظرة من 31 جانفي إلى 8 فيفري 2026 بمدينة ياسمين الحمامات، بوصفها أكثر من تظاهرة تنافسية، بل كتوجه جاد لبناء النخبة الرقمية في تونس.

ينظم هذا الموعد السنوي كل من الجمعية التونسية للمعلوماتية والأكاديمية الوطنية للبرمجة التنافسية والأمن السيبراني، تحت إشراف وزارة التربية، في إطار مقاربة تعتبر المدرسة حاضنة أولى للكفاءات، وقاعدة انطلاق نحو المنافسة الدولية.

 من الاكتشاف إلى التمثيل الدولي: هندسة متكاملة للمسار

يتميز الأسبوع التونسي للبرمجة ببنية تنظيمية واضحة تقوم على التدرج العمري والمعرفي، من الطفولة المبكرة إلى المراهقة، بما يسمح ببناء مهارات متراكمة لا ظرفية. ويتوزع البرنامج على ثلاث مسابقات كبرى، لكل واحدة منها وظيفة تربوية واستراتيجية دقيقة.

 أولا: الأولمبياد الوطني للبرمجة  (TOP)

وهو العمود الفقري للأسبوع، ويستهدف تلاميذ المعاهد الإعدادية والثانوية، بهدف انتقاء المنتخب الوطني الذي سيمثل تونس في الأولمبياد العالمي للبرمجة (IOI) بأوزبكستان سنة 2026.

ولا يقتصر هذا الأولمبياد على أيام المنافسة فحسب، بل يسبقه عمل تحضيري طويل الأمد، تجسد هذا العام في المخيم الشتوي للبرمجة، المنعقد من 21 إلى 24 ديسمبر، في مركزين حضوريين بنابل وصفاقس، إضافة إلى صيغة المشاركة عن بعد، ضمانا لإتاحة الفرصة أمام جميع المتفوقين مهما كانت جهاتهم. وقد شارك في هذا المخيم 79 تلميذا، أشرف على تأطيرهم 16 مدربا مختصا، في تجربة تجمع بين التكوين المكثف والانضباط الذهني، وتُدرّب المشاركين على خوض اختبارات معقدة في الخوارزميات وحل المشكلات ضمن ضغط زمني، حيث تمتد التصفيات الوطنية على يومين متتاليين، بأربع ساعات في كل يوم.

ثانيا: الأولمبياد التونسي للأمن السيبراني (TCO)

ويأتي هذا الأولمبياد استجابة مباشرة للتحولات العميقة التي يعرفها العالم الرقمي، حيث بات الأمن السيبراني أحد أعمدة السيادة الوطنية. المسابقة موجهة لتلاميذ الإعدادي والثانوي، وتهدف إلى ترشيح الفريق الذي سيمثل تونس في الأولمبياد العالمي للأمن السيبراني بأستراليا سنة 2026. وتقوم فكرتها على اكتشاف الثغرات الرقمية، وتحليلها، واقتراح الحلول في وقت محدود، ضمن سيناريوهات تحاكي التهديدات الحقيقية التي تواجهها الدول والمؤسساتتشارك Securinets في تنظيم هذا الأولمبياد ضمن اللجنة العلمية.

 

ثالثا: مسابقة 9issaTHON، حين تلتقي البرمجة بالخيال

على خلاف الطابع التنافسي الصارم للأولمبيادات، تأتي المسابقة الوطنية للبرمجة المرئية 9issaTHON بروح تربوية إنسانية، موجّهة لتلاميذ المرحلة الابتدائية. وتهدف هذه المسابقة إلى تبسيط البرمجة وربطها بتعلم اللغات الحية وتشجيع المطالعة، عبر تحويل قصة إلى مشروع رقمي يعرض أمام لجنة تحكيم. وهي بذلك تؤسس لعلاقة إيجابية ومبكرة بين الطفل والتكنولوجيا، بعيدا عن الاستهلاك السلبي، وممهدة للاندماج لاحقا في المسابقات الوطنية والدولية.

شراكات تعكس وعيا جماعيا

يحظى الأسبوع التونسي للبرمجة بدعم مؤسسات من القطاعين العام والخاص، من بينها Thunders وNaratQ وGlobal Talent Fund وEstetigo وItech University، إضافة إلى دعم خاص من وزارة المرأة والأسرة والطفولة، والمركز الوطني للإعلامية الموجهة للطفل، والمعهد الفرنسي بتونس. ولا يقرأ هذا الدعم  رغم محدوديته مقارنة بالتحديات التنظيمية -في بعده المادي فقط، بل كإقرار بأن الاستثمار في الموهبة الرقمية هو استثمار طويل المدى في استقرار المجتمع وقدرته التنافسية.

لماذا البرمجة التنافسية؟

تعتمد كبريات الشركات العالمية، مثل غوغل وميتا، على البرمجة التنافسية كأداة رئيسية لانتقاء أفضل العقول في العالم، لأنها تختبر التفكير العميق لا الحفظ، والقدرة على التحليل لا الاستهلاك. كما تسهم هذه المقاربة في: 

- تنمية التفكير المنطقي والرياضي،

- بناء مهارات الصبر واتخاذ القرار والعمل تحت الضغط،

- إعداد موارد بشرية قادرة على مواكبة التحول الرقمي. 

حيث لم تعد الرقمنة مسألة بنية تحتية فقط، بل مسألة كفاءة بشرية. ومن هذا المنطلق، يبرز اليوم خطاب جديد يعتبر أن الحق في تعلّم البرمجة بات امتدادًا طبيعيًا للحق في القراءة والكتابة والحساب.

تونس في المشهد العالمي: تراكم لا صدفة

لم يكن الحضور التونسي في الأولمبيادات العالمية للبرمجة وليد الصدفة، بل نتيجة عمل امتد لأكثر من خمسة عشر عاما. فقد شاركت تونس لأول مرة سنة 1992، ثم توالت المشاركات، لتتحقق أول ميدالية برونزية سنة 2004، قبل أن يتعزز الرصيد بميدالية أخرى سنة 2018، إلى جانب سلسلة من التنويهات المشرفة في السنوات الأخيرة. كما سجلت تونس حضورا لافتا في المسابقة العالمية للبرمجة الجامعية (ICPC)، حيث توجت بلقب أبطال المغرب العربي، وشاركت في التصفيات الدولية، مع إحراز ميداليات عربية برونزية وفضية خلال 2023 و2024.

طموح مشروعلا أمنية عابرة

لا تخفي إدارة الأسبوع التونسي للبرمجة طموحها في إحراز ميدالية ذهبية في أحد المحافل الدولية الكبرى. غير أن هذا الهدف لا يطرح كشعار، بل كأفق منطقي لعمل تراكمي يؤمن بأن بناء النخبة الرقمية يبدأ من المدرسة، ويدار بعقلية استراتيجية، لا موسمية. بهذا المعنى، لا يختزل الأسبوع التونسي للبرمجة في كونه مسابقة سنوية، بل يمثل إحدى اللبنات الهادئة في معركة تونس من أجل موقعها في عالم لا يعترف إلا بالمعرفة والمهارة.

أشرف جنان